زعيم إسلامي يواجه الموت
بقلم: ا. شعبان عبدالرحمن
مدير مجلة المجتمع الكويتية
يشدني عن أحداث المنطقة العربية الثائرة حدثٌ يدمي القلب، ويذكرنا بتلك العهود المظلمة الظالمة التي عشناها في مصر وعدد من بلدان العالم العربي، والتي أذيقت فيها الحركة الإسلامية أشد ألوان العذاب والاضطهاد، وكل صنوف المنع والحظر والتشويه.. هذه الصورة المأساوية تتكرر اليوم في بنجلاديش على يد حكومة حزب «رابطة العوام» بحق مؤسس الجماعة الإسلامية البروفيسور «غلام أعظمي» (90 عاماً)، الذي تم اعتقاله في 11 يناير 2012م، لينضم إلى قائد الجماعة الحالي وبقية قادتها، وأكثر من عشرة آلاف تم اعتقالهم عام 2008م، وألقي بهم في غياهب السجون؛ لإفساح المجال أمام تعديلات دستورية تم إجراؤها على دستور البلاد التي تبلغ نسبة المسلمين فيها أكثر من 95%، ليصبح دستوراً علمانياً خالصاً بعد شطب أي أثر للإسلام منه، بل ومحو أي رائحة لهذا الدين العظيم.. دين الشعب (150 مليون مسلم).
فيما يذكرنا بتلك الحملات الهمجية المفاجئة التي كان يشنها النظام المصري السابق على «جماعة الإخوان المسلمين»، والإسراع بنصب محاكمات عسكرية لقادتها وكوادرها؛ لإفساح الطريق أمام مصائب قومية كتصدير الغاز للصهاينة، أو كوارث دستورية تمكِّن للتوريث، أو لشل تلك الجماعة.. فشَّلهم الله وأزاحهم وأذلهم.. ولكن مَنْ يتعظ؟!
لقد تم تجريد تلك الحملة الشعواء على الجماعة الإسلامية لتحويل بنجلاديش - دستوراً ونظاماً - إلى نظام شبه خاضع للهند، ولم تكتفِ الحكومة باعتقال كل قادة الجماعة، ولكنها تمارس عليهم ألواناً من الاضطهاد والتعذيب، وتجهِّز لهم محاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب.. ويذكرني مشهد البروفيسور «غلام أعظمي»، الرجل المسن الذي تكالبت عليه الأمراض في زنزانته، يذكرني بمشهد علماء الحركة الإسلامية في سجون «عبدالناصر»، الذي لم يرحم سنهم المتقدمة، ولا أحوالهم الصحية الحرجة.. هكذا يعيش الرجل مريضاً وحيداً ممنوعاً من الأدوية وكل مقومات الحياة، وممنوعاً حتى من تلاوة كتاب الله تعالى.
وقد وصلتني قبل أيام رسالة دامعة من السيدة «عفيفة» (80 عاماً)، زوجة الشيخ «غلام أعظمي»، تسطر فيها حال زوجها بعد زيارتها له بالسجن، وهي كلمات تقطِّع نياط القلب حزناً على رجل كل تهمته أنه يقول: «ربي الله».
تقول الرسالة: «ذهبت لزيارته في مستشفى السجن يوم الجمعة (27 يناير) بصحبة ابني وحفيدتي، ففي الساعة العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، حددت سلطات السجن لنا الساعة الثالثة والنصف عصراً لنلتقي به في زنزانته، وعندما دخلت وجدت شريك عمري على امتداد 60 عاماً في حالة صحية سيئة للغاية.. لم أستطع التعرف عليه.. وجدته نحيلاً جداً، لدرجة أنه لا يمكنه الجلوس على السرير إلا بمساعدة شخصين.. إنه لا يحصل على حاجته اللازمة من الغذاء، وإن ضعف صحته يزداد يوماً بعد يوم بسبب ذلك، ولو استمر الوضع هكذا فقد تتدهور صحته أكثر ويحدث له مكروه.. لقد صدمنا من سلوك المستشفى ومعاملة سلطات السجن التي تتجاهل نصائح الأطباء بشأن صحته.. وإنني أدعو سلطات المستشفى والسجن إلى توفير الطعام الضروري له.. إن رجلاً بلغ من العمر 89 عاماً هو بمثابة طفل صغير يحتاج إلى رعاية مستمرة ودعم متواصل، لكنه اليوم يضطر داخل السجن إلى خدمة نفسه وحتى إلى غسل أطباقه.. إن السلوك غير الإنساني الذي تسلكه السلطات معه داخل المستشفى والسجن يشكل انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان.. فرغم جهود مضنية شفاهة وكتابة، لم نستطع حتى الآن مده بالمصحف الشريف وكتب ترجمة القرآن والتفسير والحديث لتكون بصحبته في سجنه الانفرادي، ورغم محاولات عدة على مدى أسبوعين لم يتم توفير حلاق لحلاقة شعره حتى الآن.
إن الطريقة التي تتجاهل بها السلطات طلبات العائلة تعدُّ أمراً مؤذياً وفظاً للغاية.. فقد تم تقديم 12 طلباً للمستشفى وسلطات السجن ولم يتم الرد على أكثرها.. أما الحادث الذي سبب لنا ألماً كبيراً هو أنه كاد يسقط في الحمام أثناء الاستحمام بسبب ضعفه البدني واعتلال صحته.. لقد بقي جالساً على أرضية الحمام، ثم حاول لمدة نصف ساعة القيام مرتكزاً على ركبتيه على الأرض ويديه على الحوض، لكنه فشل، وأخيراً دعا أحد الحراس الذي ساعده على القيام بعد أن جُرحت ركبتاه أثناء المحاولة، وقد عبَّر عن ذلك بأسلوبه قائلاً: «لقد كانت تلك الحادثة من أصعب الأيام في حياتي».
إننا نعلن للعالم أننا قلقون للغاية على حياته، كما نعلن أن الإهمال الذي تتعامل به السلطات مع وضعه الصحي يعد موقفاً غير إنساني، ونطالب العالم أجمع بالتدخل لإيجاد حل فوري لكل مشكلاته».
انتهت رسالة الصابرة المثابرة السيدة «عفيفة» التي تلخص إلى حد بعيد مأساة الحركة الإسلامية في بنجلاديش تحت مقصلة نظام حكومة «رابطة العوام» العلماني المتطرف، وهي محنة تدور رحاها في صمت دون أن ينتبه إليها الضمير العالمي.. وتلك المحنة ليست وليدة اليوم، وإنما تمتد لأربعين عاماً عندما انفصلت بنجلاديش عن باكستان عام 1971م بعد حرب طاحنة بين الجانبين، وقفت فيها الهند إلى جانب بنجلاديش بكل قوتها سعياً لإضعاف باكستان وتقليص نفوذها.. فعندما انفصلت باكستان عن الهند عام 1947م كانت هي وبنجلاديش دولة إسلامية واحدة، إحداهما تسمى «باكستان الشرقية» (بنجلاديش)، والأخرى «باكستان الغربية» (باكستان الآن)؛ فدقت الهند بينهما أسافين وأشعلت بينهما فتناً بدعوى أن بنجلاديش لا تحظى بنفس الرعاية من الثروة والخدمات كباكستان، وتفجرت بينهما حرب كحرب دارفور اليوم في السودان، تمخض عنها انفصال بنجلاديش الدولة المسلمة عن باكستان الدولة المسلمة الأم، ثم واصلت الهند مخططاتها للعبث في تلك الدولة تحت بند المساعدات والمعونات والحماية من العدوة باكستان، وقامت الهند يومها بأوسع عملية علمنة للتعليم والحياة بصفة عامة، وفق الثقافة والهوية الهندوسية؛ سعياً لإلحاق بنجلاديش بها ثقافياً وحضارياً، وسلخها من دينها وعقيدتها، وإضعافاً لباكستان العدو التاريخي والتقليدي، وقطعاً للطريق على أمل في الوحدة مرة أخرى بين البلدين المسلمَيْن؛ فيصبحا أقوى من الهند.
ولقد كانت الجماعة الإسلامية في بنجلاديش بقيادة البروفيسور «غلام أعظمي» يومها ضد انفصال بنجلاديش عن باكستان، وضد مخطط العلمنة الواسعة للحياة في البلاد؛ فاتُهمت بجريمة ارتكاب جرائم حرب على أساس أنها انحازت لباكستان في حربها مع بنجلاديش، فنزعت الجنسية عن الشيخ «غلام أعظمي» وعن عدد من قيادات الجماعة، وواجه الآلاف حينها السجن، لكن تمت تبرئتهم بعد ذلك وأطلق سراحهم بناء على اتفاقية ثلاثية تمت بين بنجلاديش وباكستان والهند، وأعلن العفو عن جميع المعارضين.
وغني عن البيان هنا، فإنه بعد استقلال بنجلاديش عن باكستان عام 1971م تم وضع دستور جديد عام 1972م، كان نسخة شبيهة بالدستور الهندي؛ إذ نص على المبادئ الأربعة التي ينص عليها الدستور الهندي، وهي: العلمانية، والاشتراكية، والديمقراطية، والقومية، وبموجب هذا الدستور كان تأسيس أي حزب إسلامي محظوراً.
وفي يناير عام 1975م، أجرى الرئيس «مجيب الرحمن» تعديلاً على الدستور، نص فيه على نظام الحزب الواحد في البلاد، ولكنه اغتيل في أغسطس من نفس العام على يد انقلاب عسكري، تولى بمقتضاه «ضياء الرحمن» حكم البلاد، الذي رفع من الدستور المبادئ الهندية الأربعة وحل محلها «الإيمان، والثقة بالله، والعدالة الاجتماعية»، وتم رفع الحظر عن تأسيس الأحزاب الإسلامية.
وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2008م، فاز حزب «رابطة العوام»، وتولى حكم البلاد، وفوجئ بأن الجماعة الإسلامية أصبحت ذات قوة سياسية واجتماعية في البلاد؛ فأعاد إثارة القضية منذ عودته للحكم عام 2008م، وبدأ الترتيب لمحاكمة قادة الجماعة بزعم ارتكابهم جرائم حرب وتأييدهم للقوات الباكستانية عام 1971م، وكانت تلك الحملة الظالمة على الحركة الإسلامية هناك!
وللأسف الشديد، فقد قدمت الأمم المتحدة دعماً للطلب الذي قدمته بنجلاديش سنة 2009م بخصوص ذلك، وأعطتها الضوء الأخضر للتحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب، وطلبت الأمم المتحدة من باكستان وأمريكا تزويد الحكومة البنجالية بالوثائق الخاصة التي تتصل بالحرب، ولكن حينما يحاول أحد المحامين الدوليين التدخل دفاعاً عن هؤلاء المظلومين المضطهدين يُردُّ عليه بأن هذا أمر داخلي! ولله الأمر من قبل ومن بعد.
واتخذ حزب «رابطة العوام» كافة الترتيبات للعودة بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل 15 أغسطس 1975م، ومن أبرزها:
1- إعادة دستور عام 1972م، ووضع العلمانية محل الإيمان والثقة بالله!
2- حظر الجماعة الإسلامية وغيرها من الأحزاب الإسلامية بعد إلقاء القبض على قادة العمل الإسلامي، مع حظر العمل الإسلامي - بما فيها المؤسسات والبنوك الإسلامية - جملة وتفصيلاً حتى حلقات تحفيظ القرآن.
3- ازدياد النفوذ الهندي، وفتح المجال على مصراعيه للمؤسسات الهندية في القطاعين التجاري والصناعي.
في عام 2006م، التقيت في لاهور بنائب أمير الجماعة الإسلامية الشيخ «دلاور حسين سعيدي»، واطلعت على جانب بسيط مما يجري بحقهم هناك، وفي نفس العام التقيت أيضاً بالسيدة «حميراء المودودي» (81 عاماً)، كبرى بنات الشيخ «أبي الأعلى المودودي»، وأخبرتني أنها بعد انفصال بنجلاديش مباشرة عن باكستان كانت تعمل هناك كمدرسة للغة الإنجليزية، وعايشت تلك الحملة الهندية الواسعة لعلمنة التعليم والحياة في بنجلاديش، وقالت لي: إن خطر ذلك كان مثار حوار بيني وبين والدي، وإن الجماعة الإسلامية في باكستان لم تنتبه إليه في بدايته، حيث تُرك ذلك البلد نهباً للهند، لكنني في كل الأحوال لم أكن أتصور أن الإجرام يصل إلى حد سلخ بلد بأكمله عن دينه، ومحاولة تذويبه في أتون الثقافة الهندية بهذا الشكل.
إنها محنة كبرى تجعل الحليم حيراناً.. لكن التاريخ ينبئنا أنَّ مِنْ بين نيران المحن تتولد طاقات تحرير للشعوب، وتنطلق - في نفس الوقت - ألسنة لهيبها لتحرق الظلمة المتجبرين.
No comments:
Post a Comment